نغمة الأقليّات ومتلازمة الخيانة الموهومة

بقلم الدكتور حسين عبيد

0

نغمة الأقليّات ومتلازمة الخيانة الموهومة

  بقلم الدكتور حسين عبيد

باحث في القضايا الفكريّة والتّاريخيّة 

 

من يصنع “الأقليّات”؟ وهل يعقل أن نتحدث عن أقليّات في وطن واحد إذا كانت الدولة قائمة على العدالة والمواطنة الحقيقيّة؟

تحت عناوين مّغلّفة ومفاهيم ملتبسة مثل “حقوق الأقليّات”، تُعزف نغمة مألوفة على أوتار أقلام موهومة، يروج أصحابها لرؤية تستبطن الانقسام وتزرع الخوف، حيث يصبح الفرد متهمًا بهويته، متحيزًا بخلفيته، ومجرَّمًا برمزيته.

ليست “الأقليّة” مجرد طائفة دينيّة أو عرقيّة، بل هي حالة أشمل؛ قد تكون فكرًا، موقعًا طبقيًا، أو شريحة مهمشة داخل “الأكثرية” المزعومة. هذه الحالة البنيوية تُنتجها السلطة حين تفشل في بناء مواطنة جامعة ومتساوية. في واقعنا، كثير من “الأقليات” أُشيطنت وأُلصقت بها تهم الخيانة، ليس بسبب أفعالها، بل لأنّ بعض من يملك السلطة قرر مصادرة ولائها، وجعل مشروعيته مشروطة دومًا بالإثبات.

تحت وطأة هذه الاتهامات، يُباح التّعدي على الرموز والمعتقدات والقيم، وتُضرب المعنويّات بلا هوادة. ويُسمح لأصحاب الفكر الاستئصالي أن يُزيّفوا، يُضلّلوا، يحتقروا، ويتّهموا، مستغلين الجهل والفكر المتطرف، بل وأحيانًا يختبئون خلف اعتدالٍ مُوجّه، حيث تُستخدم لغة ناعمة لتكريس الهيمنة بدل الحوار.

في هذا السياق، تُغتال المشروعية الحقيقيّة، ويُستبدل بها ادعاء الشرعية بالقوّة والغلبة. تُصبح الوطنيّة صكوكًا توزع لا عقدًا يُبنى، وفيها تُهمش أصوات المعترضين وتُخوّن، وتتحول كل مطالبة بالمشاركة إلى فعل من أفعال “التآمر”.

الأسوأ، من كل ذلك استسهال وصف من يرفض الانبطاح أمام العدو بالخيانة، ويُروّج أن الإذعان له هو “شرف” والمساومة “حكمة”، في حين يُفسّر الاستقلال والرفض بالعناد والضلال. هؤلاء يستأسدون على إخوانهم في الوطن، ويتذلّلون أمام الخارج، ممدين أياديهم لأعداء الأمّة والوطن، متسترين بشعارات الوطنيّة والدّفاع عن المصلحة.

هنا تتجلى متلازمة الخيانة: فالخائن هو من يستقوي على شعبه ليحمي سلطته، يذعن للعدو ويتهم أخاه، يتشدق بالسلام ويمارس الإقصاء، يغنّي الاعتدال وهو يغرق في تحقير المختلف.

والسؤال، هل يحق لمن يحمل فكرًا استئصاليًا أن يزيّف ويشيطن؟ وهل يمكن له أن يُحدد معنى الخيانة بالفعل؟ وهو دائم السعي لاغتيال التنوع؟ وأيّ وطن يُبنى على كراهيّة الذّات وخدمة الآخر؟

المقاومة الحقّة ليست شعاراتٍ فقط، بل منظومة قيم وسياسات تحمي الكرامة، تُعلي المشروعيّة على التبعيّة، وتحفظ التّنوع لا لتجزئته، بل لتؤسس وطنًا يتسع لكل أبنائه.

ونعود ونسأل: إلى متى تبقى متلازمة النّرجسيّة العمياء تصول وتجول في مخيلات مفبركيها؟ أليس هناك دواء يفكك عُضال هذه النّرجسيّات المتطهرة؟ أم أنّ الوطن في حساباتهم لا يُشفى إلّا بمزيد من الطرد، الافتراء، والتفوق الموهوم؟

وهنا لا بد من الإشارة، في خضم هذا السجال المتوتر، إلى أن من يحمل فكرًا وطنيًا حقيقيًا ينأى بنفسه عن هذه التّصنيفات الضيّقة. لا يسعى لتصنيف نفسه أو غيره في خانة الأقليّة أو الأكثرية أو أيّ موقع آخر. فالفكر الوطنيّ بطبيعته يسمو فوق هذه التقسيمات، ويعتمد معيارًا واحدًا فقط: الالتزام بالقضيّة، الصدق في الموقف، والنزاهة في الخيار. أما من يُصر على جرّ الجميع إلى ميادين التخوين والتشكيك والتصنيف، فغالبًا ما يكون هو أول من تخلى عن القضايا العادلة، وارتضى الاصطفاف على أرصفة الخذلان. الوطنيّة لا تُقاس بعدد الشعارات، بل بمدى الإيمان العمليّ بقيم الكرامة والسّيادة والحقّ.

ونختم، بتساؤلات مشروعة: هل يولد أحدّ أقليّة أو مهمشًا؟ أم تُفرض هذه الحالة عبر إقصاء متكرر وفشل في تطبيق العدالة؟ وهل نريد استمرار إنتاج واقع مُمزق، أم نريد بناء دولة تحمي الجميع وتُعلي من شأنهم؟ هل نؤمن بوطن يرى في كل صوت قيمة ويحترم كل اختلاف؟ أم أن ديدننا خلاف ذلك يبقى دون متلازمة المواطنة؟

هذه أسئلة، مفتوحة على مصراعيها أمامنا، قد ننشد في الإجابة عليها أبواب الخروج من متاهة الانقسامات، ومتاهات عقدة متلازمة الأقليّات، لنبني أوطانًا تسودها العدالة والكرامة الوطنيّة.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.