لبنان بين التمثيل والوظيفة قلق الهوية في زمن الخرائط المتغيّرة

0

 

لبنان بين التمثيل والوظيفة قلق الهوية في زمن الخرائط المتغيّرة

بقلم الكاتب الدكتور حسين عبيد

منذ نشأته، وُضع الكيان اللبناني في قلب صراع سرديّات لم تهدأ، وظلّ يتأرجح بين رؤى متباينة حول هويته ودوره. فهناك من يرى فيه كيانًا متجذّرًا في الذاكرة الحضارية للمنطقة، يستمدّ مشروعيته من تراكمات فينيقيّة، إسلاميّة ومسيحيّة، تداخلت وتفاعلت عبر العصور. وفي المقابل، يَعتبره آخرون صناعة سياسية حديثة، وُلد في ظلّ الانتداب الفرنسي، بتقاطع مصالح دولية ورهانات داخلية، فابتعد عن محيطه المشرقي وتحوّل إلى كيان وظيفي في خرائط تخدم مشاريع تتجاوزه حجمًا وعمقًا.

وبين هذين التصورين، ظهرت مقاربة ثالثة، لا ترى في لبنان دولة ذات سيادة قائمة بذاتها، بل مساحة قابلة للتوظيف في منظومات إقليمية، سواء كامتداد طبيعي لسوريا الكبرى أو كجسر جغرافي لتبادل المصالح والنفوذ. هكذا، أُعيد تأطير لبنان ضمن سرديّات تتعامل معه كأداة أو هامش، لا كجوهر وفاعل.

وفي هذا السياق، لا يمكن تجاهل تصريحات مثل تلك التي أطلقها توم برّاك عن “إعادة لبنان إلى الشام”، أو الخطابات الإعلامية السورية التي تُظهر طرابلس وصيدا كـ”نافذتين طبيعيتين”، أو الساحل اللبناني كـ”متنزه بحري سوري”. هذه العبارات ليست زلّات عابرة، بل مؤشرات على مسار تفكير يرمي إلى إعادة هندسة الجغرافيا السياسية، وتجريد لبنان من استقلاله الرمزي والسياسي، ليُعاد تقديمه كوظيفة مكمّلة لمشاريع تتجاوز حدوده.

وتزداد هذه المخاطر وضوحًا مع تصاعد مشاريع استراتيجية إقليمية وعابرة، يُعاد من خلالها طرح المدن اللبنانية كمراكز لوجستية ضمن خرائط نفوذ تتجاوز فكرة الدولة، وتختزل الكيان إلى عقدة لمرور الغاز، أو بوابة لمرفأ، أو رئة بحرية. ما يجعل السيادة الوطنية عُرضة للمساومة والابتلاع التدريجي.

المفارقة المؤلمة أن بعض اللبنانيين، في هذا المشهد الضبابي، يستهينون بهذه الأطماع، بل يرحّبون بها تحت عنوان “الامتداد الأخوي”، بينما يُنكرون خطر المشروع الصهيوني الذي يتوسّع صمتًا لا عبر الحرب وحدها، بل عبر الاقتصاد، والتقنيات، والمرافئ، والاختراق الثقافي. غافلين أن السيادة لا تُصان بنوايا حسن الجوار، بل بإرادة صلبة ومشروع وطني واضح.

ومما يلفت إليه أنّ الاستبطان السوري للبنان ليس جديدًا، وقد تراوح عبر التاريخ بين العاطفة والرغبة في الاستيعاب، بين الرؤية الحضارية والنزعة التوسعية. واليوم، يُعاد بعث هذه المقاربة من بوابة الجغرافيا والوظيفة، تحت شعارات مثل “النافذة الطبيعية” أو “الحق التاريخي”، ما يفتح الباب أمام مقايضات مقلقة، كالتنازل عن الجولان مقابل حضور سياسي في لبنان. وإن صحّت هذه المعادلات، فهي تعني بوضوح أن لبنان يُستخدم كورقة تفاوض لا كدولة قائمة بذاتها، ما يشكّل خرقًا صارخًا للكرامة الوطنية.

وما يكشف النوايا أكثر هو أن بعض أصحاب هذه الطروحات لم يتراجعوا إلا بعد صدمة الرفض الشعبي، ما يثبت أنها لم تكن تصريحات مرتجلة، بل رسائل سياسية مقصودة، سُحبت عندما فشلت في اختبار الوعي العام.

لكن لبنان ليس وحده في هذا المسار الخطر. فكما هو عرضة لإعادة التوظيف، كذلك سوريا، التي تحوّلت منذ الحرب إلى ساحة مفتوحة لتقاطع مصالح دولية وإقليمية. هذا التداخل أفقدها الكثير من استقلال قرارها، ودفعها إلى صفقات أضعفت سيادتها وأخرجتها تدريجيًا من معادلة الفعل المستقل.

في ظل هذا المشهد، يتلاقى لبنان وسوريا في هشاشة الداخل: اقتصادٌ منهار، مؤسسات متآكلة، ثقة مفقودة بين الدولة والمجتمع، وغياب رؤية وطنية شاملة. وما لم تُصَغَ هذه الرؤية بإرادة شعبية، يبقى كل من البلدين عرضة لإعادة التشكيل من الخارج، وفق خرائط لا تعترف إلا بالقوة والوظيفة.

ويُضاعف هذا القلق تجاهل الخطر الأعمق القادم من الجنوب، حيث يواصل الكيان الصهيوني ترسيخ نفوذه في المنطقة، لا عبر الحروب فقط، بل من خلال تفكيك البيئة الإقليمية، وتدجين الكيانات الضعيفة، وتحويلها إلى أدوات لتنفيذ استراتيجياته الكبرى، سواء في الأمن أو الاقتصاد أو الجغرافيا.

 

ورغم كل هذا، ما زال في لبنان عناصر نهوض حقيقية: إرثٌ غني، موقعٌ استراتيجي، طاقات بشرية قادرة. لكنه يحتاج قبل كل شيء إلى شجاعة وطنية تعيد بناء الدولة على أساس المواطنة، لا الطائفة؛ على التماسك الداخلي، لا التبعية للخارج؛ على القرار المستقل، لا على التموضع الوظيفي.

لبنان لا يُحمى بالشعارات، ولا يُبنى بالتمنيات. إنه بحاجة إلى عقد وطني جديد، ينبع من وعي أبنائه وإرادتهم، لا من خرائط الآخرين ولا من مشاريع لا تعنيه.

وإذا كنا حقًا نؤمن بهذا الوطن، فالسؤال لم يعد: هل يستحق لبنان الحياة؟

  1. بل هل نمتلك الوعي والشجاعة لنُبقيه حيًّا… قبل أن يُمحى من على الخارطة؟
اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.